الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن ولاه وبعد :
الصابر يعيش بصبره في نعيم , والجازع يعيش بجزعه في جحيم , سجن الصابر جنه , وبليته عطية , ومنحته منحه , وفقره غنى ومرضه عافيه .
صبر آدم على مفارقة الوطن الاول من الجنه , وصبرنوح على فقد الولد , وصبر إبراهيم على مقام ذبح الابن , وصبر يعقوب على فراق يوسف , وصبر موسى على أذى الطاغيه , وصبر داود على مرارة الندم , وصبر سليمان على فتنة الدنيا , وصبر عيسى على ألم الفقر ,
وأما رسولنا صلى الله عليه وسلم فصبر عليها كلها , وعاشها كلها , وذاقها كلها ,ففاز بالمقامات كلها , صبر على فراق الوطن , ومراتع الفتوة , وملاعب الصبا , وربوع الشباب , فترك الاهل والعشيره , والدار والمال , وصبر على فقد الولد , فسالت أرواح أبنائه بين يديه , وقعقعت أنفسهم أمام ناظريه .
وصبر على ألم الأذى فأوذي في النهج والوطن , والسمعة والخُلُق , والرسالة والزوجه .
وصبر على شماتة العدو , وتنكر الصديق , وغقوق القريب , ونيل الحاسد , وتشفي الحاقد , وتألب الخصوم , وتكألبِ الاحزاب , وتكاثر المناوئين , وصولة الباطل , وقلة الناصر ,وصبر على شظف العيش , وجفاف الفقر , ومضض الحاجة , وقلة ذات اليد , وجدب النفقه , وعوز المعيشه , وحرارة الجوع , ومرارة الفاقة .
وصبر على خيانات اليهود ومراوغة المنافقين , ومجابهة المشركين , وبطء استجابة المدعوّين .
ثم صبر على فرح الفتح , وسرور الانتصار , وجلبة إقبال الدنيا , وإذعان الملوك , واستسلام الجبابرة , ودخول الناس في دين الله أفواجاً .
صبر وهو يرى الكنوز تفرّغ في اوعية الناس فلم يأخذ منها درهماً واحداً .
وصبر وهو يشاهد القناطير المقنطرة من الذهب والفضة يتقاسمها الناس ولم يحمل منها قطميراً .
صبر وهو يحوز قطعان الإبل والبقر والغنم كالآكام , ثم يوزعها على مسلمة الفتح , ولم يظفر بجمل او بقرة او شاة وصبر على سكنى بيت الطين , وعلى اكل الشعير , وعلى افتراش الحصير , وعللا ركوب الحمار , وعلى لباس الصوف .
الأب مات ولم يره , والأم توفيت ولم تتم رضاعة , والجد فارق الدنيا ولم يحطه برعاية , والعم ذهب وقت النضال , و خديجه ودعت يوم الحزن , ولابن سالت روحه يوم تمتم الحب , وعائشه تُرمى ساعة كمال الانس , وحمزه يُـقتل زمن المصاولة .
أنس بالمدينة فنغص عليه المنافقين أنسه , استبشر بالنصر في بدر فأسرعت إليه غصة الألم في أحد , أزهر وجهه كالقمر ليلة البدر فشج بالسهام , وتلألأت أسنانه كالبرد فكسرت ثنيته في المعركة , سبقت ناقته الإبل فسبقه اعرابي على قعود , ليبقى أجره في الاخره موفوراً , وسعيه عند ربه مسروراً , ليجتمع له الثواب كله , اوله واخره , قديمه وحديثه ,
في مقعد صدق عند مليك مقتدر .